"السفركان معلّمي الأهم "
هذا ما ذكره المهندس المعماري تاداو أندو، الحائز على جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية في كتابه "تاداو أندو: محادثات مع الطلبة". ويعتبر تاداو من المعماريين الناجحين رغم عدم حصوله على شهادة رسمية في الهندسة المعمارية. فلنتعرف معا كيف شق تاداو طريقه إلى النجاح.
ولد تاداو أندو في 13 سبتمبر1941 في أوساكا باليابان.لم يدرس تاداو الهندسة المعمارية منذ البداية، بل كان مجال عمله بعيداً تمام البعد عن المعمارية، فقد كان ملاكماً، لكنّه كان يبدي اهتماماً خاصا بالعمارة، وكانت تختلجه مشاعرٌ فريدةٌ تجاه جمالية بعض الأبنية. وقد صرح تاداو في إحدى المقابلات أنه كان مبهوراً بعملية بناء طابقٍ ثانٍ في منزله عندما كان صغيراً. وقد حكى في كتابه أنّه أمضى أواخر مراهقته في السفر إلى نواحي مدينته أوساكا، وكان يزور بيوت الشاي والمساكن اليابانية القديمة، أو ما يعرف ب "المينكا".
من خلال هذه الزيارات، لاحظ أنّه كان ينجذب إلى رونق وقوة الأسلوب المعماريّ الملقب ب "شوين زوكوري" وهو الأسلوب الخاص بالأبنية السكنية اليابانية ما بين القرنين 14 و19. أحس تاداو أن هذه التصاميم أبدت حساسيةً حقيقيةً تجاه استعمال الموارد الطبيعية. ورغم جهله بتاريخ العمارة اليابانيّ إلا أنّه كان يُلاحظُ بتمعنٍ ليتمكن من فهم روح الهندسة المعمارية اليابانية.
أضاف تاداو أندو أنّ البيئة التي تربى فيها كانت محفزة لكي يصبح شخصاً يترك بصمته عن طريق عمله، إذ أنّ كل الناس حوله كانوا ينتجون شيئاً ما. لكنّ اهتمامه الجدِّي بهذا المجال بدأ عندما سحره فندق امبريال بطوكيو، المصمم من طرف فرانك لويد رايت. كما عَثر على مجموعة من الرسوم التخطيطية للمهندس المعماريّ لوكوربوزييه ،فأصبح مهووساً بها وأعاد رسمها مراتٍ ومرات.
لوكوربوزييه كان مُلهِماّ حقيقياّ لتاداو، نظراً لأنّه أيضاً دخل مجال العمارة من خلال السفر أولاً. بعد ذلك قرر تاداو أن يبدأ رحلته الأولى حول العالم ليرى أكبر عددٍ من المشاريع المتميزة ويعمق معرفته بالعمارة.
قال تاداو أندو في إحدى المقابلات أنّ المبدأ الأساسيّ الذي يعمل به هو الحصول على تصميم يدعوه للفخر، وقد تولّد لديه هذا الإحساس عندما كان يزور حيّ "ميدوسوجي " المليء بالأبنية الرائعة القابعة وسط الخراب الذي خلفته الحرب العالمية.
من أهمِّ أفكاره أيضاً جعلُ الأماكن التي يصممها تُلامس قلوب أصحابها وتُشعرهم بالافتخار والحرية. ويستعمل تاداو الخرسانة بشكلٍ كبيرٍ، محاولاً منح مرتادي أو ساكني مشاريعه تجربتهم الخاصّة. كما يؤكد على فهم الموقع وربطه بالشكل والقياسات والهندسة لإضفاء معنىً على المباني.
الضوء من أهم العناصر التي يشتغل عليها تاداو، ويمكن ملاحظة ذلك فقط بالنظر إلى مشاريعه. وقد جَذَبَ عنصر الضوء اهتمام المعماريّ تاداو عندما زار البانثيون بروما لأول مرة.
ويحاول تاداو توظيف الفراغات والكتل لتشكيل الضوء وجعله عنصراً من عناصر المكان مما يجعل التصميم المعماريّ يعبر عن نفسه ويفرض نفسه. كما يحاول خلق أشكال مختلفة من الضوء لكل مبنىً يصممه مما يعطي تجارب عديدة لدى مستخدمي تصاميمه. ففي كنيسة الضوء يمثل الفراغ -على شكل الصليب- المصدر الأساسي للضوء في غرفة العبادة، والتي تتميز ببساطتها من حيث الشكل والمواد المستعملة مما يعزز دور الضوء فيها.
هذه العناصر تضفي على المكان جواً روحانياً خاصاً وتمكّن المتعبّد من خوض تجربة فريدة.
ينطبق نفس الأمر على عدة مشاريع، بما فيها المشاريع السكنية كمنزل "كوشينو" باليابان، وهو منزلٌ مدفونٌ جزئياً تفادياً لإلحاق الضرر بعناصر الموقع الطبيعية. وقد حافظ فيه تاداو على نفس البساطة والانسجام مع التلاعب بمصادر الإضاءة الطبيعية ليحقق ما يصبو إليه صاحب البيت المصمم كوشينو.
فاز تاداو أندو بالعديد من الجوائز المحلية والدولية أبرزها جائزة بريتزكر والتي تعتبر أرقى جائزة في مجال الهندسة المعمارية.من أبرز اقتباسات لجنة جائزة بريتزكر نذكر التالي:
"يَتصوّر أندو مشاريعه على أنّها أماكنُ سكنٍ، وليس كتصاميم مجردة في المناظر الطبيعية. وليس من المستغرب أن يُشار إليه غالبًا من قِبل أقرانه المحترفين والنّقاد على أنّه عامل بناء بقدر ما هو مهندس معماريّ. وهذا يؤكد مدى أهمية البراعة في إنجاز تصاميمه. فهو يحتاج إلى دقةٍ مطلقةٍ في صنع وصبِّ قوالب الخرسانة الخاصة به لتحقيق الخرسانة الناعمة والنظيفة والكاملة لهياكله ".
"تاداوأندو هو ذلك المهندس المعماريّ النادر الذي يجمع بين الحساسية الفنية والفكرية فيفردٍ واحدٍ قادرٍ على تصميم المباني الكبيرة والصغيرة، التي تَخدُم وتُلهِم في نفس الوقت. تتجاهل رؤيته الداخلية القوية أيّ حركاتٍ أو مدارسٍ أو أنماطٍ قد تكون حالية، مما يؤدي إلى إنشاء المباني ذات الشكل والتكوين المرتبط بنوع الحياة التي ستعيش هناك."
"الهندسة المعمارية لدى أندو عبارة عن مجموعة من المفاجآت الفنية في الفضاء والشكل"، "لا توجد أبداً لحظة متوقعة بينما يتحرك المرء في مبانيه"، "يرفض التقيد بالاتفاقية"، "الأصالة هي وسيطته، ونظرته الشخصية إلى العالم هي مصدر إلهامه."
هو تجمع سكني صممه تاداو أندو في مدينة "كوبه" باليابان على 3 مراحل: 1981-1983, 1989-1993, 1997-1998.
بني الشطر الأول من الوحدات السكنية عند سفح جبل روكو، ثم تلاه الشطران الثاني والثالث بشكلٍ متدرجٍ نحو الأعلى. وقد راعى تاداو بهذا الخاصيّات الطبيعية والجغرافية والطبوغرافية للموقعِ المائلِ، إذ تمكّن من دمج التصميم مع طبيعة الموقع، فلم تتكتل الوحدات السكنية على شكل ناطحة سحاب ولم يتم تسطيح الأرض تماماً.
تمكّن تاداو أيضاً من الحفاظ على المنظر الطبيعيّ الخلّاب لصالح السُّكان، بالإضافة إلى الأسطح الخضراء والمساحات المشتركة بين بقية السُّكان لضمان راحةٍ أكثر وحياةٍ اجتماعيةٍ، مع الإبقاء على خصوصية المقيمين بالمجمع السكنيّ.
بُنيَ المعبد في أواكي باليابان بين سنتيّ 1990 و1991.
ما يُميز هذا المشروع، هو احتواؤه على شيءٍ من الغموض يدفعُ الزائرَ أو المشاهِد إلى اكتشاف ما يخبئه. فالمشروع يبدو كأنّه حوض ماءٍ به أزهار اللوتس في البداية، لكنّ الحوض يتخلله شِق وكأنّه مدخلٌ سريٌّ، فذاك هو مدخل المعبد.
بهذا التصميم خرج تاداو عن التصاميم التقليدية للمعابد البوذية، لكنّه حافظ في نفس الوقت على تناغُمِ المشروع مع البيئة المحيطة به، وكذلك على رَوحانِيّةِ وشاعريّةِ المكان.
منزل بينيس هو متحفٌ، بُني سنة 1992 في ناوشيما في اليابان. يتميز المتحف ببساطته التي تُساهم فيها سيطرة ألواح الخرسانة المسلحة على التصميم. ويَتوسطُ التصميم فناءٌ داخليٌّ به حوض ماءٍ كلاهما بيضويّ الشكل، مما يربط المساحة الداخلية بالخارج، ويربط المبنى بالطبيعة. وهذه بصمة تاداو التي تُميز العديد من مشاريعه. ففي الفضاءاتِ التي يصممها، يتمكّنُ الشخص من الإحساس بالطبيعة، والضوء، والماء، وأيضاً بالبساطة والراحة.
قصة تاداو أندو هي قصةٌ ملهمةٌ، فهو مثالٌ لشخصٍ شغوفٍ دؤوبٍ، شخصٌ أدرك هدفه وبذل الغالي والنفيس لتحقيقه. هو أيضاً مثالٌ لمهندسٍ معماريٍّ ذي فلسفةٍ خاصةٍ، لا يعتمدها في تصاميمه فقط، بل جعل منها أسلوباً لحياته.