"أود أن أريكم كيف ساعدت الهندسة المعمارية على تغيير حياة مجتمعي، وكيف أتاحت الفرصة للأمل"، هكذا بدأ المعماري ديبيدو فرانسيس كيري حديثه على خشبة منصة TED عام 2013، الذي روى فيه قصة رحلته من قريته الصغيرة في إفريقيا إلى ألمانيا ليصبح معمارياً، وعودته ليشارك خبرته ومعرفته مع أهل قريته. بعد تسعة أعوام من هذا الحديث في عام 2022، نال كيري جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية وهي أهم جائزة في هذا المجال، ليكون بذلك أول إفريقي يحصل عليها.
من هو ديبيدو فرانسيس كيري؟
إذا كنت قد قرأت عن أعمال كيري أو عن حياته من قبل فربما أول ما سيخطر في بالك عند الحديث عنه هي البساطة، الإنتماء، البيئة المحلية والتواضع. ولد ديبيدو فرانسيس كيري عام 1965 في قرية صغيرة تدعى جاندو في بوركينا فاسو، إفريقيا، وهي من أفقر بلدان العالم. قريته كانت تفتقر إلى الكهرباء والمياه النظيفة والمدارس وكافة الخدمات الأساسية. ولكنه على الرغم من ذلك كان يعتبر نفسه محظوظاً أكثر من غيره، فوالده الذي كان رئيس القرية أصرّ على إرساله إلى مدرسة خارج قريته ليتعلم القراءة والكتابة. وفي الثامنة عشر من عمره حصل على منحة لدراسة الهندسة المعمارية في ألمانيا.
أراد كيري أن يستغل هذه الفرصة إلى الحد الأقصى في خدمة أطفال قريته، فبدأ خلال دراسته يبيع رسوماته، وأقنع زملاءه بالتبرع لمشروعه الخاص. ونتيجةً لذلك تمكن بعد عامين من العودة لقريته وبناء مدرسة جاندو الإبتدائية.
كيف استطاع فرانسيس كيري إقناع المجتمع المحلي بأفكاره وإشراكهم في عملية البناء؟
صُدم أهل جاندو عندما أخبرهم كيري عن نيته بناء مدرسة من الطين، كونهم يبنون به طوال الوقت ولا يرون فيه أي إبداع. كان عليه أن يتحدث إليهم ويريهم الحلول والطرق الحديثة لإستخدام الطين، ثم أن يعمل معهم ويريهم بنفسه كيف ستتم كل خطوة دون اللجوء إلى المخططات الهندسية كونهم لا يستطيعون القراءة والكتابة. شارك في عملية البناء جميع أفراد القرية، الرجال والنساء والأطفال، وكانت النتيجة إنجاز مدرسة ابتدائية بمعايير جيدة لأطفال القرية وبمشاركة الجميع. نجاح هذا المشروع شجعه على الإستمرار والتوسع في البناء، ليصمم أيضاً مدرسة ثانوية، مكتبة وسكن للمعلمين.
الفكر المعماري عند كيري وفلسفته
ركز كيري على استخدام مواد البناء المحلية في البيئة، وابتكر في تصاميمه حلولاً بسيطة لكن مبتكرة تأخذ في الإعتبار المناخ والإمكانات المحلية. ومن الأمثلة على ذلك سقف المكتبة التابعة لمدرسة جاندو الإبتدائية، حيث استخدم فيه أوانٍ فخارية لتخلق فتحاتٍ سقفيةً يدخل منها الضوء وتضمن التهوية الطبيعية.
كما أكد على دراسة كل مجتمع وتقاليده ونمط حياة سكانه قبل البدء بالتصميم.ومن المهم إشراك الناس في المجتمع في عملية التفكير والتنفيذ والبناء. وحسب رأيه،الجميع بما في ذلك الغني والفقير، يستحق الرفاهية. "أتمنى أن أغير الصورة النمطية، وأن أحثّ الناس على الحلم وعلى المخاطرة. كونك غنياً لا يعني أنه عليك تبذير المواد، وكونك فقيراً لا يعني أنك لا يجب أن تحقق الجودة، الجميع يستحق الجودة، الجميع يستحق الرفاهية، والجميع يستحق الراحة". وعن مبانيه، فهو يريد بها أن تلهم الناس وأن تجعلهم سعداء.
بعض أعماله:
مدرسة جاندو الإبتدائية في بوركينا فاسو 2001:
أول مبنى لكيري، ظهرت فيها الأفكار والتقنيات والنمط الذي سيتبناه في بقية أعماله.
استخدم كيري الطوب الطينيّ الجاف الذي تم تصنيعه محلياً كمادة أساسية في البناء، حيث يتوفر الطين في المنطقة بكثرة ويستخدم كثيراً في بناء المساكن، ويوفر حماية حرارية ضد المناخ.
وللتخفيف من الحرارة في الفراغ الداخلي وتأمين التهوية، استخدم كيري سقفاً طينياً مثقوباً يخرج الهواء الساخن من خلال فتحاته، ويعلوه سقفٌ طائرٌ من المعدن للتخفيف من أشعة الشمس المباشرة على السقف الطيني وحمايته من مياه الأمطار.
جناح معرض سيربينتين (Serpentine) السنوي في بريطانيا 2017:
استوحى كيري تصميم هذا الجناح من الشجرة العظيمة في مسقط رأسه التي يجتمع تحتها الأفراد لإمضاء اليوم والتفكير والتحدث. يتألف من مظلة سقفية كبيرة من الفولاذ والجلد الشفاف، ومن جدران منحنية عبارة عن وحدات خشبية مثلثة الشكل ومسبقة الصنع ذات فتحات خفيفة. تنقسم هذه الجدران إلى أربعة أجزاء لتسمح للزوار بالدخول من 4 نقاط. وتنفصل عن المظلة بفراغ يؤمن دوران الهواء والإتصال مع الطبيعة المحيطة.
توفر المظلة للزوار ظلاً من أشعة الشمس، وتحوي في مركزها فتحة دائرية تؤمن الإتصال مع السماء. عند هطول المطر، يوجّه السطحُ المائل الماءَ نحو المركز لينساب كالشلال في منظر مبهر، ثم يتم تجميعه عبر نظام تصريف تحت الأرض. وفي المساء تصبح المظلة مصدراً للإضاءة لتوحي بالحركة والحياة لمن هم خارجها.
جناح معرض زايلم Xylem في مونتانا، أمريكا 2019 :
يتألف الهيكل الأساسي للجناح من وحدات فولاذية سداسية الشكل، مدعومة بسبع أعمدة فولاذية
وداخل هذه المسدسات، يتم تجميع حزم دائرية من جذوع أشجار الصنوبر لتشكيل المظلة.
وتتوفر هذه الجذوع محلياً عبر عملية تقليم طبيعية للأشجار تنقذ الغابات من الحشرات الطفيلية.
يتم نحت السطح العلوي للمظلة بشكل متعرج للإندماج مع التلال المحيطة، ويتسرب الضوء من خلال الجذوع الرأسية ليخلق تناوباً بين الضوء والظل على المقاعد المنحنية المنحوتة من الخشب.
وغير ذلك الكثير من المباني والتصاميم التي حملت بصمة كيري وفلسفته بشكل واضح.
لا تكمن أهمية أعمال كيري في المباني التي شيدها ضمن قريته فحسب، وإنما من حرصه على تعليم تقنيات البناء لأهل المجتمع المحلي ذاتهم وإشراكهم في العمل. لقد كان يريد أن يكسب أهل القرية مهنة يستطيعون العمل وجني المال من خلالها."عادةً إذا أراد الشباب أن يكسبوا أموالاً في جاندو، عليهم أن يغادروا الريف إلى المدينة وأحياناً إلى خارج البلاد، وبعضهم لا يعود أبداً، وبذلك يجعلون المجتمع أضعف. الآن يستطيعون البقاء في البلاد والعمل في مواقع بناءٍ مختلفة ليكسبوا المال ويطعموا عوائلهم". ورغم حصوله على العديد من الجوائز والتقدير العالمي، يعتبر كيري دائماً أن الإنجاز الأكبر بالنسبة له هو خدمة أبناء قريته، والفخر الذي لمسه لديهم.