تتسبّبُ المباني الخرسانيّةِ بشكلٍ عامٍ بمقدارِ ٧ بالمئة من الانبعاثاتِ الكربونيّةِ في العالمِ، الأمرُ الذي دفعَ المعماريينَ إلى التّوجهِ نحوَ تحقيقِ الاستدامةِ في استخدامِ موادِ البناءِ، وكانَ الطّينُ إحدى أهمّ هذهِ الموادِ. لا يعدُّ استخدامَ الطّينِ في البناءِ فكرةً جديدةً، حيثُ انتشرَ استعمالُهُ في حضاراتٍ سابقةٍ كثيرةٍ كحضارةِ مصرَ الفرعونيّةِ وبلادِ الشامِ والحضاراتِ الرّومانيّةِ وغيرِهَا من الحضاراتِ الّتي تركت لنا مرجعًا غزيرًا عن الأبنيةِ الطّينيّةِ.
ظهرت فكرةُ إعادةِ استخدامِ الطّينِ كمادةٍ في البناءِ نتيجةً للاتجاهِ العالميِّ المتزايدِ في الحفاظِ على البيئةِ والتّقليلِ من آثارِ الاحتباسِ الحراريِّ، حيثُ أنّهُ كانَ يعتبرُ مادةً قديمةً غيرَ متينةٍ لا تتماشى مع متطلباتِ البناءِ الحديثِ، إلى أن أتى بعضُ المعماريّينَ الذين دَعوا إلى إعادةِ توظيفِ هذهِ المادةِ في مجالِ البناءِ، وابتكرُوا طرقًا حديثةً للاستفادةِ منها بشكلٍ فعالٍ، انطلاقًا من حاجاتِ الشعوبِ، وبالاستفادةِ من خواصِ كلِّ منطقةٍ. من أهمّهم المعماريُّ حسن فتحي.
تمتلكُ مادةُ الطّينِ كتلةً حراريّةً عاليةً، وهذا يعني أنّها تمتصُ ببطءٍ الحرارةَ وتخزنُها خلالَ النّهارِ، وتطلقُها إلى داخلِ المنزلِ في الليلِ، وهذا يجعلُ الحرارةَ مقبولةً في كلِّ الأوقاتِ، حيثُ يصبحُ الفراغُ دافئًا خلالَ الشتاءِ، ومعتدلًا في الصّيفِ. تساعدُ هذهِ العمليةُ على تقليلِ الحاجةِ لاستخدامِ أجهزةِ التّكييفِ الّتي تستهلكُ كمياتٍ كبيرةً منَ الكهرباءِ داخلَ المنازلِ. كما أنَّ الطبيعةَ المساميّةَ للطّينِ تحسّنُ جودةَ الهواءِ في الداخلِ، من خلالِ امتصاصِ الرّطوبةِ وإطلاقَها عندَ الحاجةِ، والّذي يجعلُ هذهِ الأبنيةَ تتنفسُ.تمتازُ الأبنيةُ الطّينيّةُ بالصّلابةِ والمرونةِ في نفسِ الوقتِ، حيثُ يمكنُها مقاومةُ أحوالِ الطّقسِ الصّعبةِ، كالحرِّ الشديدِ والفيضاناتِ والجفافِ، بالإضافةِ إلى قدرَتِها على احتمالِ الرّياحِ القويّةِ والزّلازلِ، عن طريقِ توزيعِ المنشأةِ للأحمالِ الّتي تقعُ على سطحِها. وهو بشكلٍ عامٍ يعتمدُ أيضًا على التّربة الّتي تُبنى فوقَها هذهِ المنشآتُ وعلى شدةِ الهزّاتِ الأرضيّةِ والزّلازلِ. أمّا أهمُّ خاصيّة لهذهِ المادةِ، فهي قدرتُها على التّحللِ بشكلٍ غيرِ ضارٍ بالبيئةِ، حيثُ يمكنُ التّخلصُ من جميعِ الموادِ أو إعادةِ تصنيعَهَا من جديدٍ دونَ أن تتسببَ بأيِّ تلوثٍ.
لا تعدُ مادةُ الطّينِ تلكَ المادةَ التّقليديّةَ القديمةَ، بل تمَّ تطويرُها لتكونَ أكثرَ تحملًا وصلابةً وملاءمةً للأبنيةِ الحديثةِ، فالتركيبةُ الّتي تتكونُ منها التّربةُ الطّينيةُ المستخدمةُ في البناءِ هي كالتّالي:
وحسبَ كلِّ تربةٍ تختلفُ نسبُ هذهِ المكوناتِ وطريقةِ التّشكيلِ فيها.أمّا بالنسبةِ للعناصر الّتي يمكنُ بناؤُها بالطّين فهي:
1_ حوائطُ الطّينِ المضغوطِ:
تكونُ التّربةُ فيها مكونةً من أحجارٍ وحصىً ورملٍ وتستخدمُ نسبةُ طينٍ أو صلصالٍ كافيةٍ لتوفيرِ أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من التّماسكِ، ويتمُّ إضافةِ الرَّملِ حتى لا تتشققُ عندَ الجفافِ.
2_ الطّينُ المُخَففُ:
تتكونُ التّربةُ بشكلٍ أساسيٍّ من الطّين، وتكونُ خاليةً من الأحجارِ والحصى، والرّملُ فيها قليلٌ، ولذلكَ فهي بحاجةٍ إلى خلطِها مع الرّملِ أو القشِّ لمنعِ تشققِها. وكونُها خفيفةً فهي بحاجةٍ إلى هيكلٍ إنشائيٍّ لترتكزَ عليهِ، لذلكَ فهي تستخدمُ لتغطيةِ الجدرانِ ذاتِ الهياكلِ الخشبيةِّ.
3_ طوبُ اللِّبنِ:
يتمُّ صبِّ الطّينِ يدويًّا في قوالبٍ لتشكيلِ قطعٍ من الطّوبِ واستخدامِها في عمليةِ البناءِ، ويجبُ أن تكونَ هذهِ التّربةُ سهلةَ التشكيلِ ولا تحوي نسبةً عاليةً من الأحجارِ والحصى، وأن تحوي نسبةً كافيةً من الرّملِ تمنعُ تشقُقِها.
على الرّغمِ من وجودِ إيجابياتٍ عديدةٍ لهذه المادةِ، إلا أنَّ استخدامَها لا يخلو بالتأكيدِ من بعضِ السلبياتِ، نذكر منها:١- بما أنَّ الطّين مادةٌ مساميّةٌ فهي تمتصُ الرّطوبةَ، ويمكنُ أن يصبحَ الحائطُ قابلًا للتعفنِ. ٢-يمكنُ أن تتآكلَ الجدرانُ الطّينيّةُ في المناطقِ ذاتِ الأمطارِ الغزيرةِ. ٣-لا يتحملُ الطّينُ قوى الانحناءِ أو قوى الانحرافِ.
1)مدينةُ شبام في اليمن:
يعودُ عمرُها لنحوِ 500 عام، وأُدرجت ضمنَ قائمةِ اليونيسكو للتّراثِ العالميِّ، وهي عبارةٌ عن مجموعةٍ من المباني البرجيّةِ المرتفعةِ يصلُ ارتفاعُ بعضِها إلى حوالي 25 مترًا في السّماء، وهذا ما أدّى إلى تسميتِها ب "مانهاتن الصحراء" نسبةً إلى مانهاتن الأمريكيّةِ الّتي تحوي أبراجًا عاليةً. تحافظُ هذه المباني في فراغاتِها الدّاخليّةِ على درجةِ حرارةٍ مقبولةٍ، على الرغم من أنَّ الحرارةَ في الخارجِ قد تصلُ إلى 40 درجةٍ مئويّةٍ، ويعودُ هذا إلى خصائصِ التّربةِ الطّينيةِ الّتي بُنيت منها، بالإضافةِ إلى احتواءِ جدرانِها على فتحاتِ تهويّةٍ تحركُ الهواءَ وتجعلُهُ يدورُ في فراغاتِ البناءِ.ويُعتقد أنّ السببَ في بنائِها بهذا الشكلِ هو فيضانٌ كبيرٌ حصلَ في تلكَ المنطقةِ ودفعَ سكانَها إلى التّفكيرِ باللجوءِ إلى التّوسعِ الشّاقوليّ.
2)ملاذ توكسون الجبليّ:
يقعُ في ولاية أريزونا الأمريكيُة في منطقةٍ صحراويةٍ، صُمِمَ من قبلِ شركةِ Dust، بُنيت جدرانُهُ من الطّينِ المحليِّ ويندمجُ مع بيئتهِ المجاورةِ الصّحراويةِ والجبليّةِ بشكلٍ تامٍ، من خلالِ لونِ وخشونةِ هذه الجدرانِ، ومن خلالِ ارتفاعهِ المنخفضِ الّذي لا يتجاوزُ 3 أمتارٍ، والّذي يجعلُهُ بالكادِ قابلًا للملاحظةِ وسطَ أشجارِ الصّبارِ المحيطةِ
3)جامع جينيه في مالي:
من أقدمِ المساجدِ المبنيّةِ من الطّوبِ في العالمِ، وتمَّ إدراجهُ على قائمةِ اليونسكو للتّراثِ العالميِّ عامَ 1988. يعودُ بناؤُه لبدايةِ القرنِ العشرينِ ويتسعُ ل 3000 مصلٍّ. يتميزُ بـأنّهُ يحافظُ على البرودةِ في داخلهِ، وتختلفُ سماكةُ جدرانِهِ بحسبِ ارتفاعِهَا وتصلُ إلى 61 سم.
لا شكَّ أنَّ استخدامَ الطّينِ في البناءِ سوفَ يلقى انتشارًا أوسعَ في السّنواتِ القادمةِ نظرًا للتحسيناتِ المستمرةِ الّتي يتمُّ إدخالُهَا على هذهِ المادةِ، والتّطوراتِ الّتي تطرأُ على أدواتِهِ وعلى مظهرهِ الخارجيِّ، ونظرًا للحاجةِ المستمرّةِ إلى توظيفِ جميعِ ما يخدمُ البيئةَ ويخففُ من آثارِ تلوثِهَا