"أنطونيو بلاسيد غوليوم غاودي" أحدُ عباقرةِ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هو مهندسٌ معماريٌّ ذو أصولٍ إسبانيةٍ كتالونيةٍ، وصاحبُ أشكالٍ فريدةٍ ومميزةٍ في مبانيه الأيقونية الرائعة. اتسمت تصاميمهُ بمحاكاتها للطبيعةِ في أشكالها الغريبةِ والبديعة، وباستعمال النحتِ في تشكيل واجهاتِ وكُتَلِ مبانيهِ الفريدةِ التي تشبه الأصدافِ البحريةِ، وحركةِ الأمواجِ، وجذوعِ الأشجارِ، وغيرها من العناصر الطبيعية الموجودة في البيئة.
ولد أنطونيو غاودي في شهر يونيو سنة 1852 في مدينة "تارغون" إحدى المدن التابعة لمقاطعة كتالونيا في إسبانيا، وعاش طفولته في معاناةٍ مع مرض الروماتزم الذي أصاب أقدامه، الأمر الذي كان له أثرٌ كبيرٌ على حياته، فقد حال بينه وبين اللعب مع أقرانه من الأطفال والتمتع بمرحلة الطفولة. ونتيجةً لهذا كان يمضي أغلب وقته جالساً في المنزل، أو متمشياً على ظهر الحمار الخاص به للتنقل من مكانٍ إلى آخر. استغل غاودي وقته بالتأمل، ومشاهدة الطبيعة، ودراسة الزوايا، والحركة، والتناسب، والانسيابية، ومحاولة محاكاتها بصورةٍ طبيعيةٍ، حيث استغل مهاراته وحبه للطبيعة في الرسم ونحت الأشكال الجصّية باستعارته من الأشكال الطبيعية من حوله.
عُرف غاودي بتواضعه وبساطته، وبتوجهاته الدينية وإيمانه الكبير بالله، وقد أثّرت الفترة التي كان يقضيها في دراسة الإنجيل والتعلم في كنيسة "de l'Abadia de Montserrat" ـ وهي من أقدم الكنائس التي تمتاز بموقعها الاستراتيجي في وسط الجبال- على حياته وأفكاره، وحرّكت فيه حب التأمل تجاه الطبيعة والجمال الطبيعي للتضاريس من حوله. ساعد اجتماع هذه العوامل كلها على ظهور عبقريّ من عباقرة العمارة.
في العام 1868 انتقل"غاودي" إلى برشلونة لدراسة الهندسة المعمارية، وعلى الرغم من حبه للرسم والنحت إلاّ أنّه لم يوفَّق كثيراً في دراسته الأكاديمية، فلم يكن ذلك الفتى المتفوق، بل كانت درجاته متوسطةً، لأنه لم يكن من محبي النظام والالتزام بالقوانين التي كانت تفرضها عليه دراسَته.
ورغم ذلك فقد استفاد من دراسته كثيراً، وتعمق أيضاً في دراسة الاقتصاد، والفلسفة، والطبيعة، والتاريخ. أمّا نقطةُ انطلاقته الأولى فكانت في معرض باريس الدوليّ عام 1878م، وفيه تعرّف على صديقه "جيويل" وبدأ معه شراكةً في العمل.
مرت أفكار غاودي بمرحلتين:
في بدايات غاودي كان متأثراً بالمباني التاريخية، وخاصةً مراحل العصور الوسطى وروائع العمارة القوطية، وتأثر كذلك ببعضِ أعمال العمارةِ الإسلاميةِ في الأندلس، واستوحى منها أفكاراً. كما أنّه تأثر كثيراً بأعمال المعماري "فيوليت لودوك" وبأفكاره وآرائه. كان غاودي مؤمناً بمبدأ التصميم بتحفيز الذاكرة في هذه الفترة، وبالاستلهام من عمارات الفنون الوسطى والفن القوطي. لذلك كان يَغلِبُ على أعماله حينها تأثير الثقافةِ والتقاليدِ وسمات العمارة القوطية.
في هذه المرحلة بدأ تأثر غاودي بتجارب الفن الحديث والحركة الفنيّة في إسبانيا، وتأثر كثيراً بتيار " الآرت نوفو " في بدايات القرن التاسع عشر، حيث استلهم منه مبادئ العمل الحر والأفكار الإبداعية،والجرأة والقوة في انتقاء الكتل التشكيلية.
كل هذا عزز من استنهاض فنٍّ خاصٍّ به ذي أبعادٍ وقيم جماليّةٍ. لم تحظَ أفكاره بالانتشار في بدايته رغم تميزها وجرأتها وثوريّتها،بل بقيت على الورق حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأت تأخذ مكانتها بقوةٍ.وكان يرى أَنَّ العمارة بمكوناتها الحسية والمادية عبارة عن كتلةٍ مجسمةٍ متضادةِ العناصر متداخلةٍ مع النحت.
يُعدُّ غاودي فناناً متصوفاً في المعنى العقائدي، حيث كان يَغلبُ على أعماله الطابعُ الدينيّ، ومن أقواله: " المهندس المعماري غالباً يقول أنا صنعت، ولكن غاودي يقول "الله فقط هو الذي يصنع" ويقول أيضاً: " أنا لا أصنع أنا أنسخ " وذلك لأنّه يرسم كل شيء من الأشكال الطبيعية نفسها.
يُعدُّ غاودي فناناً متصوفاً في المعنى العقائدي، حيث كان يَغلبُ على أعماله الطابعُ الدينيّ، ومن أقواله: " المهندس المعماري غالباً يقول أنا صنعت، ولكن غاودي يقول "الله فقط هو الذي يصنع" ويقول أيضاً: " أنا لا أصنع أنا أنسخ " وذلك لأنّه يرسم كل شيء من الأشكال الطبيعية نفسها.
تتسمُ أعمال غاودي بالأصالةِ والقوةِ، وكان قلمه يمقت الخطوط المستقيمة والنظام، ويحاكي الطبيعةَ وأشكالها الحرة بعيداً عن استقامةِ النهضةِ الصناعيّة. كثيراً ما كان "غاودي" يستخدم الخرسانة في أعماله وذلك لما تعطيه من حريةٍ في التشكيل والتكوين، وكان يعتمد الإفراط في الزخرفة والاستعارة من الطبيعة، كإعطاء الواجهات الأشكال العضوية المستوحاة من الأصداف البحرية والأمواج والجبال والأشجار وغيرها من العناصرِ الطبيعيةِ من حوله.
اعتاد غاودي العمل على جميع المواد، ولكنّه كان يفضِّلُ عند تصميم مبانيه القيام بتماثيلٍ منحوتة ٍمن الجصِّ وبمقاييس ضخمةٍ 1:25 وأحيانا 1:10، حيث كان يقوم بنحتِ الأشكال التي يتخيلها ويكوّنها لكي يُسهِّلَ للعالَمِ فهم أفكاره والأشكال التي يريد الحصول عليها.
قام غاودي أيضاً بصنع العديد من الأشكال البارامترية وقوالب الهياكل الجصّية، واخترع العديد من الطرق للوصول إلى أشكالٍ طبيعيةٍ بواسطة الهياكل الإنشائية، للحصول على مبانٍ ذاتِ قوةٍ إنشائيّةٍ عاليةٍ،وأشكالٍ غريبةٍ تحاكي الطبيعة وفي الوقت نفسه لها القدرة على حَملِ المنشأ.
اشتهر غاودي بأعمالٍ عديدةٍ، ولكنّنا سنتطرق بشكلٍ مختصرٍ إلى أشهر خمسة أعمالٍ من تصميمه:
"كاتدرائيةالعائلة المقدسة La Sagrada Familia 1926-188”:
تعدُّ من أهمِّ أعمال غاودي في برشلونة، والتي اقتبس فيها من الثقافات المختلفة والعناصر التاريخية، واستعمل فيها الزخرفة المفرطة في واجهاتها العضوية المستوحاة من العناصر الطبيعية، مع المنحوتات والتماثيل التي تزين المداخل والبوابات الخاصة بهذه الكنيسة.
"حديقة غويل Colonia Guell 1908-1898":
بدأ العمل فيها في عام 1899 في برشلونة، حيث استعمل فيها التكنلوجيا والتقنيات الإنشائية الجديدة في إنتاج الأشكال التعبيرية المائلة، والمنحنيات المستوحاة من المنطقة المحيطة، وذلك بواسطة حساباتٍ ديناميكيةٍ وفق المواد الجديدة، والتي تناقض فيها أصل المواد الطبيعية، ولكنّها تحتفظ بقيمتها التعبيرية.
"منتزه غويل Park Guell 1914-1900":
يعتبرُ واحدً من أهمّ أعماله التي تندمج مع الطبيعة الجبليّة الخلّابة، بعناصرها ومبانيها والمنحنيات والمنعطفات التشكيلية التيتُكوِّنُ الشكلَ الخاصَّ فيها. بالإضافة إلى المنحوتات ذاتِ الأشكال الحيوانية، والزخارف المفرطة التي تشكل عناصرها من مقاعد وجلساتٍ ونوافير. استخدم غاودي الألوان الجميلة والمتنوعة من الخزف في تزيين هذا المنتزه وطبّق في هذا المشروع نظريته التي تقول "إنّ الخط المستقيم لا وجود له في الطبيعة".
"بيت باتلو Casa Batllo 1907-1905":
اكتسب هذا المبنى شهرته من استبعاده للخطوط المنتظمة والمستقيمة، واستعماله الخطوط المنحنية والمتعرجة، مع الفن الممزوجِ بالبُعدِ الوظيفيّ الذي اختص به غاودي. يُحاكي المبنى شكلَ القواقعِ البحريةِ في شرفاته وسقوفه المموجة التي تميلُ للتحرك، وتعطي إحساساً أشبه بالقصص الخياليّة في تعبيرها، مع الألوان التي ترتبط بانطباعات الحياة وتقلباتها.
بيت ميلا Casa Mila 1910-1905:
قدّم غاودي في هذا المبنى حلولاً تصميمةً بديعةً اتسمت بالقوة والجُرأة. وذلك بإزالته لجدران الحمل الداخلية، واستعمال المواد الإنشائية الجديدة، والخطوط المنحنية، والمتموجة، والقباب. أكدّ غاودي في هذا المبنى قدراته على النحت، وتطويع الموادِّ المختلفةِ وتوظيفها باحترافٍ في التشكيل، بالإضافة إلى اهتمامه بالجانب الوظيفيّ وبتوفير الراحة للمستخدم، ودراسته لحركة الرياح والحرارة من خلال تجاويفٍ هوائيةٍ داخليةٍ.
تم وضع الأساسات الأولى لهذه الكنيسة عام 1882، ولكنّ المعماري الذي قام بتصميمها تم طرده بعد فترةٍ، ليأتي المعماري الشاب أنطونيو غاودي صاحب ال 31 عاماً لإكمالها، بعد قيامه ببعض التعديلات على التصميم الأساسي وفقاً لتوجهاته ورؤيته الخاصة. وأصبحت فيما بعد من أهمّ أعماله رَغمَ عدم اكتمالها إلى الآن، حيث كان مقدراً إكمالها بحلول عام 1900.
صمم غاودي هذه الكاتدرائية وفقاً لمعتقداته وأفكاره الإبداعية، حيث تخلص من قيود الاستقرار والثبات، وأدخل الأشكال المتموجة والمنحنيات بقوةٍ مع الزخارف والمنحوتات والنقوش التي تغطي الكنيسة بالكامل، وهو يشابه في هذا التوجه القوطي في بناء الكنائس.
تحوي الكاتدرائية قبةً رئيسيةً يبلغ ارتفاعها 170 متراً، وتتكون من أربعِ واجهاتٍ رئيسيةٍ تحمل كُلّ واحدةٍ منها رمزيّةً خاصةً هي: " واجهة ميلاد المسيح، واجهة الحياة، واجهة المحنة، واجهةالنعيم". وتضم الكنيسة 12 برجاً تمثّل الرسل الاثني عشر للسيد المسيح. تتشابه هذه الأبراج في تكوينها مع الأصداف البحرية، ومع النهايات التي تحتوي على أشكالٍ نباتيةٍ طبيعيةٍ، تحافظ على الهدف الأساسيّ بالإحساس بالبيئة والاستعارة من الأشكال الطبيعية، وتحاكي الواجهات في مرونتها حركة الأمواج. هذا بالإضافة إلى التزيين الزخرفيّ المفرط الذي يغطي جميع الأسطح فيها، حيث كان غاودي يرى بأن للزخارف بُعداً تمثيلياً يتمثّل في توجيهها إلى عالم الأحلام والتخيل.
أعطى غاودي لنوافذ هذه الكنيسة إحساساً مرهفاً بالإحاطة والأمان، واستلهم من العمارة الإسلامية فكرة الزجاج الملون لهذه النوافذ.كما حاول إعطاء المبنى طابعَ القدسيّة والشموخ والعلو، وإعطاء الزائرين إحساساً بالانتماءِ والاحتضان، وبرزت هذه الكنيسة كمعّلمٍ مميزٍ في وسط مدينة برشلونة تتمركز حوله كل الخدمات. أمّا من الداخل لم يختلف هذا المبنى كثيراً من حيث المبدأ الذي يعتمده غاودي، فقد اتسم بخطوطه المموجة وأشكالهِ المنحنية وارتفاعه العالي وكثرة زخارفه. واستُخدمت الأعمدة ذات الشكل الشجريّ، التي أعطت إحساساً بالاندماج مع الطبيعة. ورغم الأفكار الغريبة لهذا المبنى في تصميم واجهاته الداخلية والخارجية إلا أنّه لم يختلف كثيراً عن النماذج التقليدية في تصميم الكنائس من ناحية الوظيفة الدينية.
قام غاودي بالعمل على هذه الكنيسة منذ عمر 31 سنة وحتى وفاته بعمر 68 سنة، ولم يكتمل فيها العمل إلى هذه اللحظة رغم المحاولات العديدة. فقد توقف العمل فيها عام 1936 خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي تم خلالها حرق جميع الكنائس ومنها هذه الكاتدرائية، وتسبب الحريق بخسارةِ أغلبِ المخططات الخاصة بها، مما جعل إكمال العمل عليها شبه مستحيلٍ، لأنّ المخططات القليلة التي تم العثور عليها كانت إما صغيرةً لا تكفي لاستكمال العمل، أو مخططا تٍتمّ إنجازها مسبقاً. إلاّ أنّ غاودي لحسن الحظ ترك العديد من المنحوتات الجصّية التي كان يقوم من خلالها بإعطاء نماذجٍ مصغرةٍ على ما ستؤول إليه الكنيسة.
حاول بعض العمال العودة إلى إكمال الإرث الذي تركه غاودي ولكنّهم جوبهوا بالمعارضةمن قبل (100) معماريٍ معروفٍ يطالبون فيها بالتوقف عن إكمالها، من أبرزهم " لوكوربوزيه، والترغروبيس، باولو بورتو غيزي " وغيرهمُ الكثير. وكانوا يرون أنّه" وقت الانعكاس" ويجب التوجه إلى الحداثة والمباني الزجاجية، وقد طالبوا إما بإيقاف العمل وجعله كمعّلَمٍ أثريٍّ ومتحفٍ، أو إقامة مسابقةٍ وإعادة تصميم الكنيسة وفق توجهات الحداثة. جوبه طلبهم بالرفض من قبل الحكومة المحلية وتم إكمال العمل.
يزور الكنيسة سنوياً ما يقارب 3 ملايين سائحٍ، إلاّ أنّ أعمال البناء لا تزال مستمرةً إلى هذا اليوم، ومن المتوقع اكتمال إنجازها بحلول عام 2026 م في الذكرى المئوية لوفاة أنطونيو غاودي.
"شحاذٌ صُدمَ بواسطة قطار"، هكذا كان يبدو الأمر للوهلةِ الأولى، حيث تم أخذه إلى مستشفى للفقراء، وبقي هناك عدة ساعاتٍ دون أن يعلمَ أحدٌ أنّ الراقدَ هناك هو المعماري أنطونيو غاودي، بعد عدة ساعات استطاع أحد مساعديه الذين كانوا يعملون معه في تشييد الكنيسة من التعرف عليه، وقام بنقله إلى غرفةٍ خاصةٍ والاتصال بأهله، وبعد مرور ثلاثةِ أيامٍ توفي غاودي متأثراً بإصاباته. وقف آلاف الأشخاص في جنازته، وتم دفنه في سردابِ الكنيسةِ التي أفنى عمره في العمل فيها حتى وفاته.
وهكذا تنتهي قصةُ أحدِ أهمّ معماريّ القرن التاسع عشر بموته قبل أن تكتمل لوحتهُ، تاركاً إرثاً معمارياً ضخماً من مبانٍ نُحتت بروحه وأفكاره، رافعاً من القيمة الحضارية لمدينته برشلونة، وجاعلاً منها متحفاً كبيراً لأعماله ومنحوتاته. وتبقى الأنظار اليوم متجهةً نحو إكمال آخر أعماله وَفاءً له ولروح الأعمال التي لم يُرِد أن تنتهي.