المدينةُ القديمةُ، ذاتِ العَشَرةِ قرونٍ، بألوانِها الزّاهيةِ وتصاميمِها التّفصيليّةِ، ومزيجِها المتناغمِ بينَ مختلفِ التّأثيراتِ الثّقافيّةِ، تقفُ شاهدةً على التّراثِ المغربِ الغنيِ. هذا الموقعُ المُدْرَجِ على قائمةِ التّراثِ العالمِيّ لليونسكو حافظَ على أصالتِه، مُحتجزًا جوهرَ الهندسةِ المغربيّةِ الشمالِ أفريقيّةِ عبرَ العصورِ.
تأسسَت مدينةُ مراكشَ في القرنِ الحادِيَ عشرَ على يدِ المرابطينَ بقيادةِ عبدِ الله بنِ ياسينَ، حيثُ استولُوا بشكلٍ سريعٍ على عدّةِ مناطقٍ في المغربِ واستقرُّوا بدايةً في منطقةِ أغماتَ، ليقرِّرُوا بعدَ ذلكَ إنشاءَ مدينةٍ جديدةٍ على أرضٍ محايدةٍ والّتي أصبحَتْ مراكشَ، بقيادةِ أبو بكرَ بنِ عمرَ اللّمتونيّ.
لقد تمَّ انتقاءُ مكانِ بناءِ المدينةِ العتيقةِ وفقَ شروطِ المدينةِ الإسلاميّةِ التّاليةِ:
لذلكَ اُختِيرُ الموقعُ بشكلٍ استراتيجيٍ بسببِ موقعهِ الجغرافيّ ودورهِ كنقطةِ تفتيشٍ.
يتميّزُ النَّسيجُ الحضريُ للمدينةِ العتيقةِ بتنظيمهِ الّذي يعتمدُ على نمطٍ هندسيٍ من نوعِ "الهيكلِ الإشعاعِيّ الدائرِيّ"، حيثُ تتجمعُ الطُّرقُ الرئيسيّةُ نحوَ المناطقِ المركزيّةِ. يُلاحظُ في هذا السّياقِ تسلسلٌ وتنظيمٌ دقيقانِ للمساحاتِ داخلِ الأسّوارِ وخارجهَا:
إنّ المساحاتِ الجماعيةِ والدّينيةِ تحتلُّ مكانةً مركزيةً في قلبِ المدينةِ، حيثُ يتوضعُ المسجدانِ الرّئيسيانِ باعتبارِهمَا قطبينِ بارزينِ، وهما الكُتّبِيّةُ في الجنوبِ ومسجدُ بنِ يوسفَ في الشّمالِ. في الجزءِ الوسيطِ بينَ هذينِ القطبينِ، توجدُ مناطقُ النّشاطِ التّجاريّ مثلَ ساحةِ جامعِ الفِناءِ والأسواقِ، ممّا يخلقُ شبكةً معقدةً منَ الأزقَّةِ تتّجِهُ نحوَ المركزِ الجغرافيّ للمدينةِ الّذي يمثلِهُ مسجدُ بنِ يوسفَ. يحيطُ بمركزِ المدينةِ الأحياءُ السّكنيةُ، وتحيطُ بها مساحاتٌ خضراءٌ وأراضٍ غيرِ مُسْتَغَلّةٍ، معَ وجودِ المقابرِ خارجَ الأسوارِ وبالقربِ منَ الأبوابِ. بعدَ ذلكَ تمتدُّ الحدائقُ والبساتينُ والأراضِي الزراعيّةُ، تَلِيها مساحاتٌ كبيرةٌ غيرُ مزروعةٍ.
تُعرفُ المدينةُ أيضًا بتمركزِ المساحاتِ الخضراءِ في الجهةِ الغربيّةِ، أمّا الأنّشطةُ الصناعيةُّ المُلوثةُ كدباغةِ الجِلدِ فهي في النّاحيةِ الشرقيّةِ بمحاذاةِ الأسوارِ. والغايةُ من ذلكَ للاستفادةِ منَ الرّياحِ المُهيمنةِ القادمةِ منَ الغربِ، إذ تَخلُقُ تيارًا من الهواءِ النّقيّ يدخلُ إلى المدينةِ القديمةِ طاردًا التّلوثَ الواقعَ في الشرقِ خارجَ الأسوارِ نحوَ بقيةِ المساحاتِ الخضراءِ الخارجيّةِ. هذهِ التّرتيباتُ تَعكِسُ تخطيطاً حَضَريّاً مُتقدّمَاً، حيثُ توجدُ مميزاتٌ واضحةٌ بينَ وظائفِ المساحاتِ المختلفةِ داخلَ المدينةِ، وتُشكّلُ بُنيةً مُتناغمةً ومنسّقةً.
قد يبدو للمتجولِ في أحياءِ المدينةِ القديمةِ بمراكشَ أنَّ البناءَ قد تمَّ بشكلٍ عشوائيٍّ وغيرِ عقلانيٍّ، إلّا أنَّهُ هناكَ عَدّةُ قوانينٍ تنظمُ بناءَ هذهِ المدينةِ الإسلاميّةِ، مِن أبرزِها:
يتعلقُ بالنّوافذِ المتقابلةِ، إذ يجبُ على الجارِ ألّا يُحْدِثَ نافذةً متقابلةً معَ نافذةِ جارهِ المُجاورِ، وكذلكِ النّوافذُ المُطلةُ على الأزِقّةِ، حيثُ تنعدمُ غالباً وخاصةً في الطّابقِ الأرضيّ باستثناءِ كوّةٍ صغيرةٍ للمطبخِ، أو نافذةٍ أعلى مِن مَرأى العينِ، حفاظاً على خصوصيةِ السّاكنِ وحِرْمَتِهِ. ومنهُ أيضاً يتعلقُ الأمرُ بالنّسبةِ للأبوابِ والأسطحِ، أي كلُّ ما يُمَكّنُ الناظرَ منَ الاطلاعِ على حُرْمَةِ المنزلِ الآخرِ.
يَتَجَلّى في إبعادِ بابَينِ مُتقابلينِ بمقدارِ ذراعينِ على الأقلِّ، لتفادِي التَّقابلَ المباشرَ. وتأخذُ هذهِ الاعتباراتُ المِعماريّةُ شكلاً عملياً عبرَ وضعِ الأبوابِ في مواقعٍ محدّدةٍ تُحَقْقُ بذلكَ التّوازنَ بينَ الخصوصيّةِ والاحتياجاتِ اليوميّةِ لسّكانِ. قد يكونُ تصميمُ المدخلِ يَنعكسُ بشكلٍ مباشرٍ على تخطيطِ المنزلِ بأكملهِ. ويُعتبر البابُ عاملاً مهماً يؤثرُ في الطّابعِ العامِ للمبنى والتَفاعلِ مع المكانِ المحيطِ بهِ.
هذا القانونُ يتعلقُ بالسّكنِ المشتركِ أو المجاورِ، فمثلاً يَتَوَجّبُ على السّاكنِ في الطّابقِ الأرضيّ حمايةَ وتدعيمِ المنزلِ لِمَن يَسكُنُهُ في الطّوابقِ العلويّةِ لضمانِ سلامةِ المكانِ.
فيما يتعلقُ بنماذجِ السّكنِ، يَتمُّ عادةً التّفرِقةُ بينَ نَموذَجَينِ: الدّارُ والرِّياضُ.
الدَّارُ هو منزلٌ مساحتهُ المركزيّةُ غيرُ مزروعةٍ، على عكسِ الرِّياض والّذي يكونُ وسطَ الدَّارِ، يَشغَلُهُ في الغالبِ حديقةً مزروعةً بالأشجارِ. في كلتا الحالتينِ يكونُ غالباً وسطَ الدَّارِ مُتميّزاً دائما بوجودِ نَافُورَةٍ. وبما أنَّ وجودَ حديقةٍ في وسطِ المنزلِ يَستَلزمُ بشكلٍ مَنطِقيٍ مساحاتٍ أكبرَ، لذلكَ يكونُ الرَّياضُ غالباً أكبرَ حجماً.
يتميزُ هذا النّموذجُ أيضاً بالبساطةِ منَ الخارجِ مقابلَ الاهتمامِ بالتّفاصيلِ والعناصرِ الجماليةِ كالزّليجِ المَغربيّ والجِبسِ المَنقوشِ والخَشبِ المَنقوشِ، وكذلكَ العناصرُ الطّبيعيّةُ كالحديقةِ والنّافورةِ منَ الدّاخلِ.
تتباينُ موادُ البناءِ في المدينةِ العَتِيقَةِ بينَ الحجارةِ الّتي كانَ يَتمُّ استَخْراجُهَا من جبلِ جليزَ القابعِ بمدينةِ مراكشَ، وكذلكَ البناءَ بالطّينِ خاصةً تِقَنِيّة التّابوتِ. وهذهِ الموادُ تَستَلزمُ سماكةً كبيرةً بالنّسبةِ للجدرانِ، وبدورهَا أيضاً تأمّنُ الرُّطوبةَ المناسبةَ وتساعدُ على استقرارِ درجةِ حرارةِ المناسبةِ في المنازلِ على مدارِ السَّنةِ، بالإضافةِ لوجودِ الفِنَاءِ الدَّاخليّ، والّذي يُحسّنُ من التَّهويةِ والإضاءةِ الطّبيعيّةِ ويحفظُ كذلكَ حُرمَةَ ساكنِي المنزلِ.
يعودُ اسمُ مسجدِ الكُتبيينِ، المَعروفِ بالكُتبيّةِ، إلى تواجدِ سوقٍ بهِ حوالي مئةٍ من محلاتِ الكُتّابِ والخطاطينَ المُقامةِ في محيطهِ، والّذي كانَ تحتَ حُكمِ المُوحدينَ خلالَ القرنِ الثانيَ عشرَ والقرنِ الثالثَ عشرَ، وقد تمَّ التّخلي عنهُ لاحقاً. تمَّ بناءُ المسجدِ في موقعِ قصرِ المُرابطينَ، وافتَتَحهُ المُوحدي عبدُ المؤمنِ ابنُ عليَ في عامِ 1158م وانتهى بناؤهُ بما في ذلكَ المِئذَنَةُ في عامِ 1196م على يدِ حفيدهِ يعقوبَ المنصورِ.
بمساحةٍ تَبلغُ 5.300 متراً مربعاً، تُعتبرُ الكُتبِيّةُ واحدةً من أهمِّ وأقدمِ المَعَالِمِ التَّاريخيّةِ والدِّينيّةِ في المغربِ.
أبعادُ مِئذَنَتِها الشّهيرةُ غيرُ عاديةٍ فعرضها يبلغُ 12.80 مِتراً، بينما يبلغُ ارتفاعُها حتّى قمّةِ القِبّةِ 69 مِتراً. إنَّ زخرفةَ واجهاتِ المِئذَنَةِ الموزعةِ على مستوياتٍ مختلفةٍ على كلِّ وجهٍ، تجمعُ بينَ قوسِ الحدودِ والأقواسِ المزخرفةِ، شبكاتِ العَقدِ المنحوتةِ والزَّخارفُ الزَّهريةُ المرسومةُ على الطِّلاءِ. أمَّا الجزءُ الأعلى من المِئذَنةِ فمُزَيّنٌ بفنِ التَّرصِيعِ بالخَزَفِ المُغطى باللّونِ التُّركوازيِّ النَّادرِ للغايةِ.
"أكثرُ من خمسمئةِ عمودٍ منَ الرُّخامِ الكَارارا، ونحوَ عشرينَ قِبّةٍ، وأحواضٍ عديدةً في الأرضِ وفي الطَّابقِ العُلويِّ، وَرِصْفٌ منَ الخزفِ المُطَعَّمِ، والمُطَرَزاتِ والمُعَلَقاتِ الحريريّةِ بأهدابً خطيّةٍ من خيوط الذَّهبِ.." هكذا وُصِفَ قصرُ البديعِ، كما وردَ ذِكرهُ في كتبِ توثيقِ المؤرخينَ المغاربةِ والدُّبلوماسيّينَ والمسافرينَ الأوروبيّينَ الذينَ زاروهُ في نهايةِ القرنِ السادسِ عشرَ.
تمثّلُ آثارهُ جُزءَ الاستقبالِ فقط من مجموعةٍ أكبرَ تمَّ بناؤها بين عامَي 1578م و1594م بأمرٍ من السّلطانِ السّعديّ أحمدَ المنصورِ. كانَ هذا الجزءُ الّذي تمَّ بناؤهُ بالكاملِ على مَعرِضاتٍ تحتَ الأرضِ، وذلكَ على ما يبدو لأسبابٍ تتعلقُ بتدفقِ المياهِ، يتميز هذا القصرُ بتنظيمٍ تناظريٍّ مميّزً معَ أربعِ باحاتٍ رئيسيّةٍ.
أُهمِلَ القصرُ بعدَ وفاةِ المَنصورِ عام 1603م، وبقيَ في النّهاية بحالةٍ خرابٍ بعدَ سقوطِ سُلالةِ السّعديّينَ. وجُرِدَ من موادهِ الثَّمينةِ خاصّةً الرُّخامُ.
تمَّ تجهيزُ حوالي ستينَ مبنىً مجتمعاً على ما يبدو في نوعٍ منَ المتاهةِ لتحولَها لقصرٍ في نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشرَ على يدِ "با أحمد" (أحمدُ بنِ موسى). الأجزاءُ الأكثرُ تميّزاً فيه هي: الرِّياضُ الكبيرُ الّذي بُنيَ في عامِ 1878م، والّذي يحوي على فَنَاءٍ كبيرٍ مصنوعٍ من الرُّخامِ، كما يَحتوي على أكبرِ صالونِ استقبالٍ في القصرِ. الرِّياض الصغيرُ المعروفِ ب"المفضلة" هو جوهرٌ حقيقيٌّ بفضلِ رقّةِ تصميمهِ. يسودُ فيهِ جوٌ من الخصوصيّةِ، معَ التَأكيدِ على ذلكَ بوجودِ قُبّةٍ زجاجيّةٍ وشبكاتٍ مزخرفةٍ بزجاجٍ ملونٍ. تتخلّلُ الرِّياضُ صالوناتٌ جميلةٌ من خشبِ الأرزِ المدهونِ.
تأسّست مدرسةُ ابنِ يوسفَ على الأرجحِ في عهدِ المرينيين في القرنِ الرابعِ عشرِ، ومعَ ذلكَ فإنَّ هَيكَلهَا الحالي يعتبرُ بِلا شكٍ إنجازٌ للسُلطَانِ السّعديّ عبدِ اللهِ الغالبِ باللهِ، كما يَظهرُ من بينِ عدّةِ نقوشٍ نقشٌ يعودُ إلى سنةِ 972 هـ (1564-65). يَكشفُ مُخططُها الواسعِ بأبعادهِ البالغةِ 40 متراً × 43 متراً من خلالِ تناغُمهِ المثاليّ عن بصمةِ مصممٍّ واحدٍ.
يترتبُ الهيكلُ بشكلٍ متناغمٍ حولَ فِنَاءٍ يتمتعُ بإضاءةٍ ناعمةٍ تَعكسُ اللّونَ الورديَّ الفاتحَ الّذي يتدفقُ منَ الجَصِّ الّذي يَكسُو الجُدرانَ. يُطوِّقُ هذا الفِنَاءَ الّذي يَحدُّهُ جَنَاحَانِ جَانِبِيَان بأعمِدةٍ قويّةٍ، ويتميّزُ كذلكَ بترتيبٍ يتبعُ مِحْوَرَهُ حوضٌ من الرُّخامِ الأبيضِ وقَوسِ صَلاةِ المسجدِ. في الخلفيةِ من هذا القاعِ يبرزُ قوسُ المِحْرَابِ وإِطارُهُ المنحوتِ في الجَصِّ الّذي يستقبلُ ضوءاً خافتًاً من نوافذَ صغيرةٍ. تحتلُّ الطّوابقُ العُليا غرفٌ موزعةٌ حولَ فِنَاءٍ مُحاطٍ بحواجزَ خشبيّةٍ من خشبِ الأرزِ المُنفِذِ. على الرُّغمِ من بساطةِ غرفِ الطُّلابِ مُقارنةً بغنى الزَّخرفةِ في الفِنَاءِ، إلّا أنَّ اتجاهَ التَّزيينِ الكثيفِ الّذي يميّزُ مدارسَ المَرينيين في القرنِ الرابعِ عشرِ يتضاءلُ هنا بفضلِ وَسَعِ النِّسبِ، الَّذي سَمَحَ بنحتِ أنماطٍ أكثرَ اتّساعاً وتهويةً على الخزفِ والجَّصِ والرُّخامِ وخشبِ الأَرزِ. باعتبارِ هذهِ المزايا تظلُّ مدرسةُ ابنِ يوسفَ واحدةً من روائعِ الفَنِّ الرئيسيّةِ في مراكشَ.
بعيداً عن جاذبيتِها الجَماليَّة، تَعْكِسُ عمارةُ المدينةِ القديمةِ مكوناتها الثَّقافيّةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ الّتي شكّلتِ المدينةَ. من روعةِ قصرِ البَاهيَّةِ إلى بساطةِ الرِّياضِ التَّقليديَّةِ، يَعكِسُ كلُّ بناءٍ سَردَا لماضي مراكشَ، مُظهِراً تأثيراتِ الحضاراتِ البَربَريَّةِ والعربيَّةِ والأندَلُسيَّةِ.
La Médina De Marrakech, Quentin Wilbaux, 2002
Marrakech, Hamid Triki, 1986
المدينة الإسلامية، محمد عبد الستار عثمان، 1988