مقدمة
“كل الآلهة”، هذا ما تعنيه الكلمة الإغريقية الأصل التي أُطلقت على أحد أهم صروح الحضارة الرومانية الصامد حتى اليوم في مدينة روما في إيطاليا، والذي أُريد له أن يكون معبداً لتكريم جميع الآلهة، ولا سيما الأولمبية منها تحت اسم “معبد البانثيون”.
من بنى البانثيون؟
استمر الجدل طويلاً حول أصل المبنى، الذي زاد هذا الجدل الوصف المحفور في الصخر على واجهته الذي يقول: “ماركوس أغريبا، ابن لوسيوس، في قنصليته الثالثة، بنى هذا”، في الحالة العادية، كان هذا الوصف ليوضح كل شيء ولكنه في حالة البانثيون زاد الأمور تعقيداً.
فبالنظر إلى عمارة البناء نفسه، أثار الإنقطاع في استمرارية عناصر المبنى آراءاً مختلفة في إذا كان هناك في الحقيقة شخصٌ واحدٌ قد بني البانثيون في عهده، أم أنه بُني في ظل تعاقب عدة أباطرة. ويتمثل الإنقطاع في عناصر البانثيون بالرواق وأعمدته ذات الطراز الإغريقي، التي تتعارض مع الكتلة الأسطوانية (الروتندا) ذات الطراز الروماني، والكتلة المتوسطة المستطيلة بجبهتها المثلثية المرتفعة، بجانب الرواق المنخفض نسبياً.
أثار هذا عدة فرضيات، منها: أن البانثيون بُني من قبل عدة معماريين لكل منهم نمط ومستوى معين، واستمر هذا الجدل حتى بداية القرن العشرين، حيث تمت دراسة حجارة من كل أجزاء المبنى، ووفقاً للأختام الموضوعة عليها ومطابقتها مع أسماء كبار المسؤولين الحكوميين آنذاك، كان بالإمكان القول أن البانثيون بشكله الحالي بُني في المدّة ما بين 120-128 م وهي المدّة التي كان الإمبراطور هادريان حاكماً خلالها، وأن عمليات التجهيز للبناء قد بدأت قبلها بعامين.
ولكن في الحقيقة يعود وجود المبنى إلى أقدم من ذلك، حيث تشير الأبحاث إلى أن البانثيون الحالي بُني على أنقاض بانثيون آخر شُيّد في نفس الموقع، في حوالي 27 ق.م من قبل ماركوس أغريبا، احتفالاً بإنتصار حماه الإمبراطور أغسطس في معركة أكتيوم على أنتوني وكليوبابترا.
كان المبنى الأصلي مستطيل الشكل ومدخله في جهة الشمال، أي يواجه المبنى ككل المحور الشمالي الجنوبي كما اقتضى التقليد الروماني، وقد تم تدميره بسبب حريق، ليقوم الإمبراطور دوميشان بإعادة بنائه في حوالي 80 م، ولكنه دُمر مرة أخرى بسبب البرق عام 110م، ما أثار الإعتقاد بأن الآلهة لم تكن راضية عن هذا المعبد المكرّس لها، ولذلك فقد تُركت بقايا المعبد لمدة 8 سنوات قبل أن يصبح هادريان إمبراطوراً ويبدأ عملية البناء، ويفترض بعض الباحثين أن البناء كان قد بدأ فعلياً في عهد الإمبراطور تراجان وتوقف عند وفاته ليكمل بعده هادريان بناءه.
أما عن الوصف الموجود على واجهة البناء، فيُعتقد أن هادريان قد وضعه دلالةً على تواضعه واعترافه بكون أغريبا هو الباني الأصلي للمعبد واحتراماً له أمام الآلهة.
الفكر المعماري وراء بناء البانثيون:
كان يريد هادريان أن يمنح الشعب الروماني شيئاً ليفخر به، كالرخام المذهل، والبرونز المتوهج، وعظمة القبة، كلها تعطي المشاهد شعوراً بالذهول، كما أن افتقار القبة لأية زوايا كان يدل على الإستمرارية والكمال والديمومة، وهذا هو الشكل الذي أراد هادريان أن يرى به العالم الإمبراطورية الرومانية. أما الفتحة السماوية (العين) فقد أراد بها الإشارة إلى استمرارية السماء والعلاقة مع الآلهة الرومانية. وكان هادريان يستمد من ذلك قوةً كبيرة خلال عقده لمحكمته داخل القاعة كونه مراقبٌ أمام الجميع من قبل الآلهة.
شكلت هذه الفتحة المصدر الوحيد للضوء المباشر في المبنى، ومسار هذا الضوء يتغير يومياً على الجدران والقاعة المستطيلة، وربما كان هذا المسار قديماً يحدد أحداثاً شمسيةً وقمريةً معينةً، أو يحدد الوقت.
أما الألواح الداخلية للقبة فتنقسم إلى 28 قسماً، وهذا الرقم كان يعتبر في العصور القديمة إحدى الأرقام الأربعة المثالية، وكانت تُتخذ من قبل فيثاغورس وأتباعه معنىً صوفياً ودينياً فيما يتعلق بالكون.كما اعتقد البعض أن القاعة الأسطوانية تمثل نموذجاً مصغراً للعالم الروماني تحت السماء المرصعة بالنجوم، والقبة فوقها كمظلة السماء، يحكمها الإمبراطور، وهذا هو في رأيهم النظام الصحيح الذي يجب أن يكون عليه العالم.
تصميم المبنى:
يتألف من رواقٍ عند المدخل على الطراز الإغريقي محمول على 16 عمود كورنثي، يعلوه إفريز وجبهة مثلثية، يليه ما يعرف بالكتلة المستطيلة المتوسطة وهي مرتفعة نسبياً وتصل ما بين الرواق والأسطوانة أو “الروتندا”، التي هي القاعة الأساسية في البانثيون المسقوفة بقبة تحوي نافذة سقفية دائرية، بالإضافة إلى جبهة مثلثية ثانية سطحية تلتصق بالكتلة المتوسطة. كما يبلغ قطر القبة 43.3 متر، ويبلغ ارتفاعها عن الأرض 43.3 متر أيضاً.
عناصر المبنى:
الأساسات:
تم إنشاء أساسٍ على شكل حلقة قطعٍ من الحجر الجيري والحجر البركاني (بوزولان)، ومتماسكةٍ مع بعضها بواسطة مونة من البوزولان والحجارة الكلسية.
عند انتهاء بناء الحلقة، لوحظ حدوث تشققٍ فيها، حيث كانت التربة تحتها طينيةً وغير مستقرة، أدى هذا إلى هبوطٍ غير متساوٍ في مواضع عدة ٍمن هذه الحلقة، وهو ماسبب تلك الشقوق فيها.
ولحل هذه المشكلة عمد البناؤون إلى بناء حلقةٍ أخرى حول الحلقة السابقة، لدعمها ومنعها من التشقق، كما أنهم زودوا الجزء الجنوبي منها بجدرانٍ حمالة لدعمها. بلغ عرض الحلقة الأولى 7.2 م والحلقة الثانية 3 م ليصبح العرض الكلي للأساس الحلقي 10.2 متر وبإرتفاع كلي 4.7 م.
الجدران :
يحتوي الجدار المستدير على العديد من التجاويف والغرف على مستوياتٍ مختلفة، ويمكن اعتباره مجموعة من العناصر الشاقولية الحاملة مفصولة عن بعضها بواسطة أركان جدارية عددها 8 متباعدةٍ بالتساوي على طول المحيط الداخلي، وبين كل ركن الذي يليه موضوع تمثالٌ لأحد ملوك إيطاليا العظماء أو البابوات المهمين، وفي أحدها أيضاً تمثالٌ للرسام المعروف رافاييل.
جميع هذه الأركان الجدارية تحوي أعلاها أقواساً وظيفتها دعم الجدران العلوية حيث تنقل أحمالها إلى عناصر الإتصال الشاقولية.
القبة:
قبة المبنى مبنيةٌ من الخرسانة الرومانية، على سطحها الخارجي هناك سلسلة من الحلقات عددها 7 تصل حتى منتصفها، ثم يتحول الخط الخارجي إلى دائري. أما السطح الداخلي لها فيحتوي على 5 قطاعات مقسمة بشكل يشبه الوافل، يمكن أن ندعوها بالخزائن. تتدرج سماكة هذه القبة من 5.9 مترعند قاعدتها، لتصبح 1.5 م عند القمة.
استغرق إنشاء جدران الروتندا من 4 إلى 5 سنوات، كما استغرق بناء القبة وقتاً مماثلاً بسبب ارتفاعها والأدوات الضعيفة التي استخدمها الرومان آنذاك.
ومن الجدير بالذكر، أنه مازال بانثيون روما يعتبر أحد أعرق معابد العهد الروماني القائمة حتى يومنا هذا، ويمثل معلماً سياحياً شهيراً في إيطاليا